يُطلق مصطلح اللغة العربية المعيارية الحديثة (Modern Standard Arabic - MSA) على اللغة العربية الفصحى المستخدمة اليوم في وسائل الإعلام المختلفة، وخصوصاً القنوات التلفزيونية الناطقة باللغة العربية والصحافة المطبوعة والرقمية. إلا أن هذا المصطلح لم يلق بعد نصيبه من البحث اللغوي العلمي، لوضع المعايير التي تميز اللغة العربية المعيارية الحديثة عن اللغة العربية الفصحى الكلاسيكية (التراثية)، والوصول إلى تعاريف دقيقة وواضحة تتيح للمتخصصين اللغويين التمييز بين النوعين والتزام النوع المناسب للمحتوى المطلوب. سنحاول في هذه الدراسة الإضاءة على الجوانب اللغوية التي تميز بين هذين النوعين اللغويين، ووضع مجموعة من المعايير الأولية لتحقيق ذلك.

من الجدير بالذكر أن اللغة العربية المعيارية الحديثة تختلف تماماً عن اللهجات العامية التي تهيمن على اللغة المحكية في جميع الدول الناطقة بالعربية، ومن الضروري التمييز بين هذين النوعين اللغويين.

 

 

المحتوى

 

 

المصطلحات

اللغة العربية الفصحى الكلاسيكية (أو الفصحى التراثية أو فصحى التراث): يُطلق هذا المصطلح على اللغة العربية الفصحى القائمة على اللغة القرآنية، والتي انتشر استخدامها منذ عصر صدر الإسلام، وصولاً إلى العصر الأموي، وانتهاءً بأواخر العصر العباسي، مع بدء انتشار ما سُمّي باللحن في اللغة، وهو الذي مهد لظهور اللهجات المحلية. بنيت هذه اللغة على اللغة العربية التي كانت سائدة في عصر ما قبل الإسلام، والمبنية على اللغة النبطية وخط المسند الذي انتشر في جنوب الجزيرة العربية. ومن المعروف أن عصر صدر الإسلام شهد تغييرات لغوية هامة في اللغة العربية الفصحى، منها ما فرضه توحيد قراءات القرآن الكريم (بالقراءات السبع أو العشر)، ومنها ما ارتبط بإضافة التنقيط والحركات على يد أبو الأسود الدؤلي وتعديلاتها على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي.

اللغة العربية المعيارية الحديثة: يُطلق هذا المصطلح على اللغة العربية المستخدمة في الإعلام اليوم، والتي بدأت بواكيرها مع انهيار الإمبراطورية العثمانية وانتعاش اللغة العربية مع انتشار المطابع الحديثة في مطلع القرن العشرين، وبدأت ملامحها في التبلور بشكل واضح في النصف الثاني من ذلك القرن، مع انتشار حركة الأدب العربي الحديث.

لا بد من الإشارة إلى أن اللغة العربية المعيارية الحديثة تمثل نوعاً لغوياً موحداً في جميع الدول الناطقة باللغة العربية، من الجزيرة العربية والمشرق العربي، وصولاً إلى شمال أفريقيا والمغرب العربي، وذلك على الرغم من الفروقات الثقافية التي تفرض فروقات لغوية محددة بين المناطق الجغرافية المختلفة، والتي تظهر بصورة أساسية في المصطلحات، ومدى تقبل المفردات العامية.

اللهجات العامية: يُطلق هذا المصطلح على اللهجات المحكية محلياً في مختلف المناطق الجغرافية الناطقة بالعربية. يختلف اللغويون على اعتبار اللهجات المحكية نوعاً لغوياً مستقلاً، أم مجرد لحن محلي، إلا أن عدم وجود توثيق كتابي لهذه اللهجات، وغياب جانب النحو بشكل كامل عنها، يرجحان وجهة النظر الثانية.

 

منهجية الدراسة

اعتمدنا في هذه الدراسة على البحث الإحصائي لتحديد مدى انتشار التراكيب اللغوية المحددة في المحتوى الرقمي العربي، كمؤشر على مدى انتشار هذه التراكيب في اللغة العربية المعيارية الحديثة. اعتمدنا محرك البحث ’جوجل‘ في تنفيذ البحث الإحصائي ومدى تكرار ورود التراكيب المعينة، مع حذف بعض المواقع التي تعتمد اللغة العربية الكلاسيكية، مثل بعض المواقع الدينية. عملنا على البحث عن أمثلة متعددة عن كل تركيب لغوي، لمحاولة الوصول إلى التكرار الفعلي للتركيب وليس المثال المحدد. قادتنا هذه المنهجية إلى العديد من الاستنتاجات، التي قمنا بعرضها على عدد من المتخصصين اللغويين في المحتوى العربي الحديث لبيان الرأي، وانتخبنا منها ما توافق عليه هؤلاء المتخصصون.

يهمنا توضيح أن الاستنتاجات الواردة في هذه الدراسة هي مجرد منطلق لبحث أعمق ونقاش أوسع بين جمهور المتخصصين، ويهمنا في هذا السياق سماع رأي أساتذة اللغة العربية الأجلاء، إلى جانب المخضرمين من المتخصصين في الترجمة والمحتوى العربي الحديث، بفرعيه الرقمي والمطبوع.

  

المحتوى اللغوي

يعد القرآن الكريم الوعاء اللغوي الأساسي للغة العربية الفصحى الكلاسيكية، ويضاف إليه الحديث الشريف وأدبيات العصرين الأموي والعباسي، خصوصاً الشعر العربي والمؤلفات الدينية والفلسفية، إلى جانب الترجمات الهامة من اللغات القديمة، مثل كتاب كليلة ودمنة الذي تُرجم عن اللغة السنسكريتية، وكتابي الجمهورية والحيوان لأفلاطون، وغيرها الكثير.

أما في ما يتعلق باللغة العربية المعيارية الحديثة، فيعد الإعلام الحديث وعاءها اللغوي الأساسي، وخصوصاً القنوات التلفزيونية الناطقة باللغة العربية، والصحافة المكتوبة، سواء المطبوعة أو الرقمية. يُضاف إلى ذلك المؤلفات العربية الحديثة، الأدبية والتقنية والعلمية وغيرها، والترجمات العربية الحديثة في مختلف القطاعات.

من الجدير بالذكر أنه ونظراً لغياب المعايير الواضحة، فإن المحتوى العربي الحديث قد يمزج بين النوعين اللغويين في وعاء واحد. وتظهر هذه الإشكالية بشكل واضح في قرارات التعريب التي صدرت عن مجامع اللغة العربية المختلفة، خصوصاً في جانب الاصطلاح. حيث حاولت المجامع للأسف التمسك بالفصحى الكلاسيكية عوضاً عن بناء معايير واضحة للمعيارية الحديثة.

 

الفروقات اللغوية بين النوعين

يمكن تقسيم الفروقات بين اللغة العربية المعيارية الحديثة والعربية الفصحى الكلاسيكية إلى فئات علم اللغويات الثلاث، أي النحو والمصطلحات والصوتيات (وخصوصاً في مجال الحركات والتشكيل)، وعلامات الترقيم، إلى جانب الفروقات الأساسية في أسلوب الكتابة الرسمية والأدبية، وظهور فنون كتابية جديدة لم تكن معروفة خلال فترة اللغة العربية الفصحى الكلاسيكية.

 

الفروقات النحوية

يحتاج وضع تعريف واضح للفروقات النحوية بين النوعين اللغويين دراسة واسعة من المتخصصين، تتطلب مؤتمراً جامعاً يحضره أساتذة اللغة العربية والمتخصصون في الترجمة وإنشاء المحتوى الحديث. سنحاول في ما يلي تسليط الضوء على أبرز التوجهات التي تختلف فيها العربية المعيارية الحديثة عن الكلاسيكية في مجال النحو والصرف، بانتظار نقاش أوسع حول هذا الموضوع.

  1. تميل اللغة العربية المعيارية الحديثة إلى استخدام التراكيب النحوية البسيطة، والابتعاد عن تلك التي تتضمن تقديم الفاعل على الفعل أو الخبر على المبتدأ (مثال: "أعجبني في الحديقة أزهارُها" تصبح "أعجبتني الأزهار في الحديقة").
  2. تميل اللغة العربية المعيارية الحديثة إلى استخدام الجملة الفعلية إلا في حالات الضرورة، وتبتعد عن الابتداء بشبه الجملة أو اعتماد الجملة الإسمية. يستثنى من ذلك عناوين الأخبار والمقالات، حيث تُعتمد الجمل الإسمية فيها (مثال: الإمارات تكشف عن مشروع طموح لاستكشاف المريخ").
  3. عند استخدام الجمل الإسمية، تميل اللغة العربية المعيارية الحديثة إلى تجنب تقديم الخبر على المبتدأ (مثال: "أمام القاضي شاهدُ القضيّة"، ويستعاض عنها بالجملة الفعلية: "وقف شاهدُ القضيّة أمام القاضي" أو بالجملة الإسمية دون التقديم "شاهدُ القضية أمام القاضي"). في حالات وجوب تقديم الخبر على المبتدأ (مثال: "في بيتنا ضيفٌ")، تعتمد اللغة العربية المعيارية الحديثة الفعل الماضي الناقص (مثال: "كان في بيتنا ضيفٌ") أو الأحرف المشبهة بالفعل (مثال: "إن في بيتنا ضيفاً).
  4. عند استخدام الجمل الإسمية، تميل اللغة العربية المعيارية الحديثة إلى تجنب إدخال أحرف الاستفهام على المبتدأ (مثال: أَمُسافرٌ أنتَ؟).
  5. عند استخدام الجمل الإسمية، تتجنب اللغة العربية المعيارية الحديثة تعدد الخبر (مثال: "التفاح حلوٌ حامضٌ") وتستعيض عنها بالعطف (مثال: "التفاح حلوٌ وحامض").
  6. لا تستخدم اللغة العربية المعيارية الحديثة ألفاظ القسم مثل "وأيم الله" و"لعمرك" وما شابهها، ولا تستخدم أداة القسم "ت" مع لفظ الجلالة "تالله".
  7. لا تميل اللغة العربية المعيارية الحديثة إلى استخدام عبارات القسم التي يتوجب فيها استخدام لام القسم ونون التوكيد (مثال: "والله لأحاسبنَّ المقصِّر").
  8. لا تستخدم اللغة العربية المعيارية الحديثة صيغة الجمع بين الشرط والقسم (مثال: "والله لا نجاح إلا بالجهد").
  9. لا تميل اللغة العربية المعيارية الحديثة إلى استخدام أسلوب المدح والذم (مثال: "نِعم المعلم أحمد").
  10. لا تستخدم اللغة العربية المعيارية الحديثة أسلوب المدح على وزن "أفْعِل به" (مثال: "أكرِم بأحمد") ولا صيغ المدح غير القياسية مثل "لله دره" و"ياله".
  11. لا تستخدم اللغة العربية المعيارية الحديثة أسلوب الإغراء والتحذير بتكرار اللفظ (مثال: الصدقَ الصدقَ).
  12. لا تستخدم اللغة العربية المعيارية الحديثة أسلوب الاستغاثة بياء النداء (مثال: "يا للقادرين على العون").
  13. لا تستخدم اللغة العربية المعيارية الحديثة جميع أخوات كان (مثال: "أمسى" و"بات" و"ما برح").
  14. لا تميل اللغة العربية المعيارية الحديثة إلى استخدام الجملة الاسمية أو الفعلية كخبر لـ "إنّ" وأخواتها (مثال: "إن المصباح ضوؤهُ شديد") أو لـ "كان" وأخواتها (مثال: "كان الشتاء بردهُ شديدٌ").
  15. لا تميل اللغة العربية المعيارية الحديثة إلى تقديم خبر كان وأخواتها وإن وأخواتها على اسمها (مثال: "أصبح في حيرةٍ الرجلُ" أو "إن في المنزل صاحبه").
  16. لا تستخدم اللغة العربية المعيارية الحديثة أحرف النفي "إن" و"ما" و"لات" و"لا" التي تعمل عمل أخوات كان (مثال: ما الشارعُ مزدحماً).
  17. لا تستخدم اللغة العربية المعيارية الحديثة صيغة فاعل اسم الفاعل (مثال: "جاء الرجلُ الفاضلُ أخوه" – أخوه فاعل لاسم الفاعل الفاضل)، أو صيغة فاعل الصفة المشبهة بالفعل (مثال: "شاهدتُ جبلاً جميلاً منظرهُ" – منظره فاعل للصفة المشبهة جميلاً).
  18. لا تميل اللغة العربية المعيارية الحديثة إلى استخدام الجملة الإسمية أو الفعلية في محل صفة (مثال: "هذا يومٌ برده قارصٌ").
  19. في الجمل الفعلية، تعتمد اللغة العربية المعيارية الحديثة تأنيث الفعل مع الفاعل في جميع حالات الجواز والوجوب، في حين تعتمد الفصحى الكلاسيكية جواز التأنيث في الحالات المعروفة (مثال: "سافرَ أمسٌ فاطمة" أو "يطلع الشمس من المشرق").
  20. يقل استخدام المفعول المطلق والمفعول معه في اللغة العربية المعيارية الحديثة بشكل واضح، في حين تحافظ على استخدام المفعول لأجله والمفعول فيه.
  21. لا تميل اللغة العربية المعيارية الحديثة إلى استخدام أدوات الاستثناء "خلا" و"حاشا".
  22. لا تميل اللغة العربية المعيارية الحديثة إلى استخدام تمييز الملفوظ (مثال: "اشتريت درهماً ذهباً") وتستعيض عنه بالصفة ("اشتريت درهماً ذهبياً") أو شبه الجملة ("اشتريت درهماً من الذهب")، في حين تحافظ على استخدام تمييز الملحوظ.
  23. يقل استخدام التوكيد اللفظي وتوكيد "كلا" و"كلتا" في اللغة العربية المعيارية الحديثة بشكل واضح.
  24. يقل استخدام بدل البعض من كل وبدل الشمول في اللغة العربية المعيارية الحديثة بشكل واضح.
  25. تميل اللغة العربية المعيارية الحديثة لقبول تأنيث المنصب (مثال: "مديرة العلاقات العامة")، في حين تمنع اللغة العربية الكلاسيكية تأنيث المنصب في جميع الحالات.
  26. تميل اللغة العربية المعيارية الحديثة إلى اعتماد الأرقام بدلاً عن التفقيط (وهو كتابة الرقم بالكلمات) في أغلب الحالات، مع استثناءات نوضحها في ما يلي:
    1. في الأخبار الصحفية وعند ورود أرقام كبيرة، تستخدم اللغة العربية المعيارية الحديثة الطريقتان معاً، فنكتب "715 مليون دولار" بدلاً عن كتابة الرقم كاملاً أو التفقيط بشكل كامل. أما مع الأرقام التي تتألف من مقطع واحد فتكتب بالتفقيط (مثال: أكثر من مليون دولار)، في حين تكتب الأرقام الأصغر عددياً فقط (مثال: وحضر المؤتمر 43 ممثلاً عن أهم المؤسسات المعنية).
    2. عند كتابة أسعار المنتجات، تعتمد اللغة العربية المعيارية الحديثة الأرقام حصراً.
    3. عند كتابة التواريخ، تعتمد اللغة العربية المعيارية الحديثة الأرقام حصراً (مثال: 14/5/2016)، مع بعض الاستثناءات في سياقات محددة مثل السياق الديني (الرابع من محرم لعام 1410 للهجرة) وغيرها.
    4. في عناوين الأخبار الصحفية والمقالات المنشورة، تعتمد اللغة العربية المعيارية الحديثة التفقيط.

 

الفروقات في الاصطلاح

يمثل الاصطلاح الفارق الأبرز بين اللغة العربية المعيارية الحديثة والعربية الفصحى الكلاسيكية، ويعود ذلك إلى حاجة اللغة العربية المعيارية الحديثة إلى استيعاب مصطلحات العالم الحديث في مختلف المجالات التقنية والأدبية والعلمية المتنوعة، وهي في غالبها من المصطلحات التي تشير إلى مفاهيم لم تكن موجودة في عصر الفصحى الكلاسيكية. تميل اللغة العربية المعيارية الحديثة إلى قبول المصطلحات من اللغات الأجنبية بشكل أكبر، وعلى الرغم من المحاولات الجادة التي قامت بها مجامع اللغة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين لوضع مصطلحات عربية أو معربة لفظياً بطريقة التعريب الصرفي النحوي لمصطلحات العالم الحديث، إلا أن سرعة التطور التقني وانتشار مصطلحات أجنبية بأعداد كبيرة جعلت من التعريب الصوتي الطريقة المعتمدة لاستيعاب مصطلحات العالم الحديث.

 

التعريب اللفظي في اللغة العربية المعيارية الحديثة

يعد التعريب اللفظي، وهو المصطلح العربي المقابل لكلمة transliteration في اللغة الإنجليزية، من أهم أدوات اللغات التي تتيح لها التطور واستيعاب مصطلحات العالم الحديث. وقد اكتسب التعريب اللفظي أهمية خاصة في عصرنا الحديث، لأن متطلباته تخطت مسألة نقل العلوم والمجالات الحديثة لتصل إلى استخدام العلامات التجارية العالمية، مثل ’جوجل‘ و’فيسبوك‘ وغيرها. إلا أن ممارسات التعريب اللفظي تحتاج إلى الكثير من الجهود البحثية، وإلى وضع معايير أساسية تسهم في توحيد المصطلحات المعربة ومنع تعدد خيارات التعريب.

 

لمحة تاريخية

ليس التعريب اللفظي ممارسة مستجدة، بل تستمد جذورها من اللغة العربية الفصحى الكلاسيكية، حيث نجد القرآن الكريم قد استخدم مصطلحات معربة لفظياً من اللغات القديمة، مثل كلمتي اليم والطور، المعرّبتين عن السريانية، والصراط والفردوس المعربتين عن الرومانية، وكلمة سجّيل المعربة عن الفارسية. بالإضافة إلى ذلك، لقي التعريب اللفظي بحثاً واسعاً من علماء اللغة العربية القدماء، حيث ميز العلماء بين المعرَّب والدَّخيل، واشتقوا مصطلح الاقتراض للإشارة إلى ما يعرب لفظياً دون تغيير من اللغات الأخرى، كما وضعوا ضوابط التعريب اللفظي بالطريقة الصوتية والطريقة الصرفية النحوية. ويمكن العودة إلى الكتب التي وُضعت حول هذا الموضوع بين القرن السادس والثاني عشر الهجري، مثل كتاب "المعرّب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم"، للجواليقي، 540هـ، وكتاب "رسالة في تحقيق الكلمة الأعجمية"، لابن كمال باشا، 940 هـ، وغيرها.

 

التحديات التي تواجهها ممارسات التعريب اللفظي الحديثة

يمكن تلخيص المشاكل التي تعاني منها ممارسات التعريب اللفظي الحديثة في النقاط التالية:

  1. تعدد خيارات التعريب اللفظي وعدم توحيدها، مثل تعريب موقع التواصل الاجتماعي الشهير بكلمة ’فايسبوك‘ أو ’فيسبوك‘ أو فيس بوك‘.
  2. غياب معايير واضحة لاستخدام حروف الاستبدال عند التعريب اللفظي لمصطلحات تحوي أصواتاً غير موجودة في اللغة العربية، مثل أصوات الحروف G و V و P في اللغة الإنجليزية، فنجد موقع البحث العالمي الشهير معرباً بكلمات ’جوجل‘ أو ’قوقل‘ أو ’غوغل‘ وفقاً للمنطقة الجغرافية واللفظ العامي لهذه الحروف.
  3. تشابه بعض الألفاظ المعربة صوتياً مع كلمات عربية، ما يؤدي إلى تشويش المعنى. ولعل أبرز مثال عن هذا الموضوع هو التعريب اللفظي لنوع لحم Angus الشهير، حيث يكتب لحم أنجس، وهو ما يحمل معنى النجاسة الذي يسبب مشكلة حقيقية نظراً لارتباط المصطلح بالطعام.
  4. المقاومة غير المبررة التي تلقاها ممارسات التعريب اللفظي لدى أساتذة المدرسة اللغوية القديمة، الذين يصرون على إيجاد مصطلحات عربية بديلة، مثل الإصرار على استخدام مصطلح الحاسوب بديلاً عن كمبيوتر، برغم شيوع الخيار الثاني. للأسف، تسهم مجامع اللغة العربية القديمة والعريقة في إذكاء هذه المقاومة غير المبررة.
  5. عدم وضوح قاعدة استخدام "ال" التعريف مع الكلمات المعربة لفظياً، فنجد مصطلح "الفيسبوك" مثلاً، مع أن اسم الموقع هو اسم علم معرفة لا يعرَّف بـ "ال".
  6. غياب الضوابط الأكاديمية لاستخدام التعريب اللفظي، التي توضح متى يمكن استخدامه، وكيف، ولماذا، والخيارات الأخرى المتاحة بديلاً عنه في حال عدم القدرة على استخدامه، وهو ما سنوضحه في الفقرة التالية.

 

توصيات حول ضوابط استخدام التعريب اللفظي

نورد في ما يلي بعض التوصيات حول ضوابط استخدام التعريب اللفظي، بانتظار المزيد من النقاش والحوار حول هذه المسألة الهامة بين المتخصصين اللغويين:

  1. استخدام التعريب اللفظي في حال غياب المرادف العربي القابل للاستخدام: يعني ذلك غياب المرادف العربي كلياً (مثل أسماء العلامات التجارية) أو ضعف المرادف العربي وتسببه بمشاكل في الاستخدام (مثل اسم "الرائي" للتلفاز).
  2. استخدام التعريب الصرفي النحوي للمصطلحات التي جرى تعريبها صرفيَّاً خلال النصف الثاني من القرن العشرين في حال نجاح المصطلح المعرب في الدخول إلى الأدبيات العربية، مثل مصطلح "تلفاز"، والتوقف عن محاولة التعريب الصرفي النحوي واعتماد التعريب الصوتي من الآن فصاعداً.
  3. اعتماد التعريب الشرحي الوصفي (التعبير عن معنى المصطلح دون تعريبه بشكل مباشر) في الحالات التي لا تقتضي إيراد المصطلح بشكل مباشر، مثل التفاصيل التقنية في السيارات عند شرحها في سياق ميكانيكي.
  4. إيراد المصطلحات بلغتها الأم (بالأحرف الأجنبية) فقط عند الضرورة القصوى، مع مراعاة قدرة المتلقي على قراءتها. تصلح هذه الطريقة في السياق التقني على وجه الخصوص، عند ورود تفاصيل تقنية تخصصية غير موجهة للقارئ العادي. يراعى عند استخدام هذه الطريقة عدم المزج بين اللغتين، فيرد المصطلح بلغته الأم بشكل كامل أو باللغة العربية بشكل كامل.

 

 

توصيات حول ممارسات التعريب اللفظي

وللعمل على حل هذه المسائل، نورد في بيت المحتوى التوصيات التالية:

  1. العمل على إنشاء هيئة جامعة تعمل على توحيد المصطلحات المعربة لفظياً ونشر مسارد لغوية بهذه المصطلحات لاعتمادها من المترجمين والمتخصصين في المحتوى العربي. نوصي أن تعتمد هذه الهيئة على مبدأ التواصل الاجتماعي والتعهيد الجماعي، بحيث يُصار إلى طرح المصطلحات على مجتمع المتخصصين للنقاش وإبداء الرأي، ومن ثم اختيار المصطلحات الأنسب.
  2. انشاء مسرد متخصص لحروف الاستبدال ونشره واعتماده. ونقترح في هذا السياق اعتماد الممارسات الشائعة في منطقة الخليج العربي، نظراً لتقديم نسبة كبيرة من المحتوى العربي من هذه المنطقة.
  3. اعتماد استخدام الفواصل المقلوبة مع المصطلحات المعربة لفظياً، لتمييزها ومنع التباسها مع كلمات عربية شبيهة بها. وفقاً لهذه التوصية، يُكتب مصطلح أنجس الوارد سابقاً بالشكل التالي: ويحتوي هذا الطبق على لحم ’أنجس‘ الأمريكي. تساعد هذه الممارسة أيضاً في تعريب أسماء المؤسسات والمنظمات التي تعرب صوتياً، حيث نكتب الأمم المتحدة دون الفواصل المقلوبة لأنها مصطلح عربي، بينما نكتب ’يونسكو‘ لأنها كلمة معربة لفظياً.
  4. إطلاق حملة تثقيفية حول استخدام "ال" التعريف مع المصطلحات المعربة لفظياً، وتوضيح عدم جواز دخولها على اسم العلم.

 

يحتاج هذا الموضوع إلى المزيد من البحث اللغوي، خصوصاً في ما يتعلق بهامش الحرية في اعتماد التعريب اللفظي للمصطلحات الحديثة، والقواعد اللغوية العربية لهذا الاستخدام، إلا أننا نأمل أن يلقى هذا الموضع ما يحتاجه من الدراسة في المستقبل القريب.

 

الفروقات في مجال الصوتيات

يمكن تلخيص الفروقات بين اللغة العربية المعيارية الحديثة والعربية الفصحى الكلاسيكية في مجال الصوتيات في جانبين أساسيين: الأول هو الأصوات الدخيلة على الأبجدية العربية، والحركات والتشكيل.

الأصوات الدخيلة على اللغة العربية

على عكس اللغة العربية الفصحى الكلاسيكية، تتسامح اللغة العربية المعيارية الحديثة في استخدام الأصوات الدخيلة على الأبجدية العربية، مثل أصوات الحروف G و P و V في اللغة الإنجليزية. للأسف لا تزال حروف الاستبدال الصوتي التي تستبدل بها هذه الأصوات محل جدل وعدم اتفاق بين المتخصصين، فنجد صوت الحرف G على سبيل المثال معرباً بحرف الجيم في بعض الأحيان، والغين أو القاف في أحيان أخرى. يرجى العودة إلى ورقة العمل حول التعريب اللفظي التي أصدرها بيت المحتوى للمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع.

الحركات والتشكيل

يمثل استخدام الحركات والتشكيل كتابة ولفظاً أحد أهم الفروقات بين اللغة العربية المعيارية الحديثة والعربية الفصحى الكلاسيكية، حيث تمثل الحركات والتشكيل جزءاً أساسياً من الكلمة في اللغة الفصحى الكلاسيكية، في حين تكتفي المعيارية الحديثة بالحركات الضرورية للّفظ السليم، وتفضل الوقوف على ساكن في غالبية الأحيان، حتى في وسط الجملة.

ينظر غالبية اللغويين العرب إلى الوقوف على ساكن في وسط الجملة بصفته ضعفاً في قدرات القراءة، إلا أن الانتشار الواسع لهذا الأسلوب في اللفظ يحتم على المتخصصين دراسة هذه الظاهرة ووضع معايير واضحة لها، تتجنب التشدد في لفظ الحركات والتشكيل، وفي الوقت ذاته تمنع التخلص من لفظ الحركات والتشكيل بشكل كامل.

 

الفروقات في علامات الترقيم

استوعبت اللغة العربية المعيارية الحديثة العديد من علامات الترقيم الدخيلة من اللغات الأجنبية، وأسقطت استخدام بعض علامات الترقيم في اللغة العربية الفصحى الكلاسيكية. ولعب انتشار التكنولوجيا الحديثة، وخصوصاً تقنيات الطباعة الحديثة، دوراً هاماً في هذا التحول. يمكن تلخيص أبرز الفروقات في مجال علامات الترقيم في ما يلي:

  1. علامة التنصيص: تستخدم اللغة العربية المعيارية الحديثة علامة التنصيص اللاتينية ("أبجد") عوضاً عن علامة التنصيص العربية الكلاسيكية («أبجد»).
  2. تستخدم اللغة العربية المعيارية الحديثة الفواصل المقلوبة (’أبجد‘) للتنصيص داخل علامة التنصيص، وأيضاً لتمييز الكلمة المعربة لفظياً (للمزيد من المعلومات يرجى العودة إلى ورقة العمل حول التعريب اللفظي التي أصدرها بيت المحتوى).
  3. تستخدم اللغة العربية المعيارية الحديثة القوسين () للجمل المعترضة، ولا تميل لاستخدام الشرطتين – أبجد –.
  4. لا تميل اللغة العربية المعيارية الحديثة إلى استخدام الفاصلة المنقوطة.
  5. تستخدم اللغة العربية المعيارية الحديثة علامات ترقيم حديثة لها ضرورة تقنية لم تكن موجودة في عصر الفصحى الكلاسيكية، مثل علامة البريد الالكتروني (@) وعلامة هاشتاغ (#) وغيرها.

 

الفروقات في أسلوب الكتابة

تتبنى اللغة العربية المعيارية الحديثة أساليب الكتابة الحديثة، وتبتعد عن الأسلوب التقليدي الذي يشتمل على الديباجة. تعد بعض الأشكال الأدبية الحديثة امتداداً للأشكال الأدبية الكلاسيكية، مثل الموضوع القصير الذي يشتمل على مقدمة وبسط وخاتمة، في حين تبتعد بعض الأشكال الأخرى عن القيود الكلاسيكية، مثل أسلوب كتابة المقال البحثي أو مقال الرأي، أو الدراسة العلمية. كما برزت بعض أنواع الكتابة التي لا تشبه الكتابة الكلاسيكية العربية، مثل كتابة الدليل التقني أو المدونات أو غيرها. إلى جانب ذلك، اختفت بعض الأشكال الأدبية الكلاسيكية بشكل كامل، مثل المقامات.

وتمثل هذه المسألة تطوراً طبيعياً وامتداداً منطقياً لتطور حاجات المجتمع الحديث. يتلخص الفارق الأساسي في أسلوب الكتابة في أن اللغة العربية المعيارية الحديثة تعتمد الإيجاز والمباشرة وتبتعد عن الزخرف اللفظي، وتتجنب السجع والطباق والجناس، وتركز على مخاطبة الجمهور المتلقي بلغة يفهمها دون عناء. ولعلَّ عبارة أبي تمام الشهيرة في جوابه على سؤال "لم لا تقولُ ما يُفهم؟" بالقول "لم لا تفهم ما يُقال؟" هي خير تعبير عن هذه الفروقات، فلو قُدِّر لأبي تمام أن يكون في العصر الحديث، لكان الأولى به أن يقول ما يُفهم كما طلب السائل في ذلك العصر.

 

نرجو أن نكون قد وفقنا في بناء لبنة أولى لدراسةٍ أكثر عمقاً وتفصيلاً حول اللغة العربية المعيارية الحديثة والفروقات بينها وبين اللغة العربية الفصحى الكلاسيكية، ونحن بانتظار آراء المتخصصين وملاحظاتهم لنعمل معاً على تطوير هذه الدراسة وتحويلها إلى مرجعية علمية في هذا الموضوع الهام.